شكر نعمة الماء
الماء هو أساس الحياة، وبدونه لا يمكن للكائنات أن تعيش أو تنمو أو تزدهر. وقد جاء في كتاب الله الكريم: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]، وهذا تأكيد قرآني على مركزية الماء في الوجود، ودوره في خلق الحياة واستمرارها. ومن بين أعظم النعم التي يغفل الإنسان عن شكرها، نعمة الماء التي لا تعد ولا تحصى أوجهها. فالماء ليس فقط مشروبًا يروي العطش، بل هو مورد حيوي يُستخدم في كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل الحياة البشرية والطبيعية.
في هذا المقال المطول، سنتناول بشكل تفصيلي كيف يكون شكر نعمة الماء عمليًا وروحيًا، من خلال الوعي، والحفاظ، والامتثال للأوامر الشرعية، والإسهام في ترشيد استخدام هذا المورد الثمين.
أولاً: الماء في المنظور القرآني والنبوي
يتكرر ذكر الماء في القرآن الكريم عشرات المرات، مما يدل على أهميته الكبرى في العقيدة الإسلامية وفي النظام الكوني الذي خلقه الله. من الآيات البارزة في هذا السياق: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا﴾ [ق: 9]، و﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [إبراهيم: 32].
وفي السنة النبوية، وردت أحاديث كثيرة تبين فضل الماء وضرورة شكره وعدم الإسراف فيه. فقد قال النبي ﷺ: «لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جارٍ» [أخرجه ابن ماجه]. وفي هذا الحديث اختصار بليغ لضرورة التقدير العملي للماء حتى في حالة الوفرة.
ثانيًا: أوجه النعمة في الماء
الماء نعمة متعددة الأبعاد، وكل بعد منها يستدعي شكرًا خاصًا وتأملًا في قدرة الخالق سبحانه:
-
الري والعطش: الماء هو ما يروي ظمأ الإنسان والحيوان، وهو ما يبلل الأرض اليابسة فتخرج زرعها ونباتها.
-
النظافة والطهارة: الماء هو وسيلة الطهارة من الحدث، وهو أساس النظافة الشخصية والعامة.
-
الصناعة والزراعة: لا تقوم الزراعة بدون ري، ولا تتم العمليات الصناعية إلا من خلال استخدام الماء في مراحل متعددة.
-
التنقل والتجارة: الأنهار والبحار كانت منذ القدم وسيلة لتنقل البشر وتبادل البضائع.
ثالثًا: أشكال شكر نعمة الماء
1. الشكر القلبي
الشكر يبدأ من داخل القلب، حين يستشعر العبد عظمة هذه النعمة، ويستحضر أنه لولا الماء لهلك كل شيء. استحضار هذه الحقيقة في القلب يولد خشية من الله وتقديرًا لنعمه، ويجعل الإنسان أكثر تواضعًا وأقل تبذيرًا.
2. الشكر باللسان
من أعظم صور الشكر هو التسبيح والحمد والدعاء. تكرار قول “الحمد لله على نعمة الماء” وذكر الله عند استخدامه للماء (مثل التسمية عند الشرب والوضوء) كلها من سنن الشكر اللساني.
3. الشكر العملي
هو أهم أنواع الشكر، ويتمثل في:
-
عدم الإسراف: وهو جوهر الشكر، إذ أن من يشكر النعمة لا يفرط فيها. استخدام الماء في حدود الحاجة فقط دون تبذير.
-
صيانة الموارد: مثل إصلاح الصنابير التالفة، ومنع تسرب المياه، واستخدام تقنيات توفير المياه في الزراعة والمنازل.
-
نشر الوعي: تعليم الأبناء والمجتمع أهمية الحفاظ على الماء، وإقامة حملات توعية في المدارس والمساجد والمرافق العامة.
رابعًا: الماء وأزمة الهدر العالمي
تواجه البشرية اليوم أزمة عالمية في موارد المياه، رغم أن كوكب الأرض يغطيه 71% من الماء، إلا أن النسبة الصالحة للاستخدام البشري أقل من 1%. وتؤكد الدراسات الحديثة أن هناك أكثر من ملياري إنسان يعانون من ندرة المياه النظيفة، وأن الاستهلاك المفرط يهدد بتجفيف مصادر المياه الجوفية.
جدول توضيحي: توزيع المياه على الأرض
| المصدر | النسبة المئوية من المياه |
|---|---|
| مياه البحار والمحيطات | 97.5% |
| المياه العذبة | 2.5% |
| المياه المتاحة للبشر | <1% |
المصدر: World Health Organization (WHO), Global Water Crisis Report, 2023.
خامسًا: الأثر الروحي لشكر الماء
حين يدرك المسلم أهمية الماء ويشكره كما ينبغي، تتعمق علاقته بالله تعالى، ويصبح أكثر وعيًا بمفهوم الأمانة في استخدام النعم. فالماء ليس فقط سلعة مادية، بل أمانة أخلاقية ودينية. ومن لا يشكر النعم، يهدد بزوالها. قال تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].
سادسًا: الماء في العبادات الإسلامية
يلعب الماء دورًا محوريًا في أداء الشعائر الدينية، مثل:
-
الوضوء: لا تُقبل صلاة المسلم بدون وضوء، والذي لا يتم إلا بالماء.
-
الغسل: سواء غسل الجنابة أو غسل الجمعة، وهو من شروط الطهارة.
-
التيمم: حتى عند غياب الماء، شرع الله بديلاً عنه، مما يدل على مكانته الجوهرية في الدين.
فالماء ليس مجرد وسيلة مادية، بل ركن من أركان الطهارة التي تعتبر شرطًا لصحة العبادة.
سابعًا: أثر شكر الماء في الاستدامة البيئية
شكر نعمة الماء لا يقتصر على الجانب التعبدي فقط، بل يمتد إلى البُعد البيئي والاجتماعي. فالحفاظ على الماء يساهم في:
-
منع التصحر: من خلال الاستخدام الواعي للري في الزراعة.
-
الحفاظ على التنوع البيولوجي: الكائنات الحية تعتمد على المياه العذبة في بقاء بيئاتها.
-
خفض التلوث: من خلال عدم رمي النفايات في الأنهار والبحار.
ثامنًا: التربية الأسرية على شكر نعمة الماء
من المهم أن تبدأ التربية البيئية والشرعية للأطفال من المنزل، فيتعلم الطفل من والديه أن يغلق الصنبور، ويستخدم كوبًا صغيرًا عند الوضوء، ويعرف أن الماء ليس بلا حدود. تعليم الأطفال أن شكر الماء ليس فقط بالدعاء، بل بالسلوك والتصرف هو جوهر التربية الإسلامية.
تاسعًا: التقنيات الحديثة في حفظ الماء
في العصر الحديث، تطورت العديد من التقنيات التي تساعد في حفظ المياه، منها:
-
أنظمة التقطير: المستخدمة في الزراعة لترشيد الري.
-
إعادة التدوير الرمادي: استخدام مياه الغسيل في ري الحدائق.
-
مستشعرات الحنفيات: التي تغلق تلقائيًا عند عدم الاستخدام.
هذه التقنيات، إن استُخدمت بوعي وبتخطيط، يمكن أن تعزز من مفهوم الشكر العملي للماء وتحافظ على مصادره للأجيال القادمة.
عاشرًا: المسؤولية الجماعية والمؤسسية
لا تقع مسؤولية شكر الماء على الفرد فقط، بل تشمل أيضًا الجهات الحكومية، والمؤسسات الدينية، والتعليمية، والمنظمات البيئية. إذ يجب:
-
إصدار قوانين صارمة لمنع التلوث المائي.
-
تطوير مشاريع لحصاد مياه الأمطار.
-
دعم الأبحاث العلمية المتعلقة بتحلية المياه.
كل هذه المبادرات تصب في مفهوم الشكر المجتمعي للنعم، وهو ما يعبر عن الرؤية الشاملة للإسلام تجاه النعم.
خلاصة مفاهيمية
شكر الماء ليس فعلًا بسيطًا ينحصر في قول “الحمد لله”، بل هو منظومة متكاملة من الوعي والنية والسلوك والنية الصالحة تجاه هذه النعمة العظيمة. فالماء الذي يجري بين أيدينا اليوم قد لا نجده غدًا إذا لم نُحسن شكره والتعامل معه. وقد يُسأل العبد يوم القيامة عن هذه النعمة: كيف تعامل معها؟ هل قدرها حق قدرها؟ وهل حفظها من الفساد والإهدار؟
المراجع
-
القرآن الكريم
-
WHO Global Water Crisis Report, 2023
